كلمة جلالة الملك عبدالله الثاني أمام مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية

كلمة جلالة الملك عبدالله الثاني أمام مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية

الولايات المتحدة الأميركيةواشنطن العاصمة
24 نيسان/أبريل 2009

بسم الله الرحمن الرحيم

أبدأ بتقديم جزيل الشكر للجنرال سكوكروفت،
ويسرني أن أكون معكم جميعاً اليوم،

لقد ظل مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية على الدوام مصدراً ثرياً لفهم أهمية العلاقة بين الشرق الأوسط والولايات المتحدة، وإنه لشرف لي أن أدعى إلى حواركم هذا.

أصدقائي،

أود اليوم أن أبدأ حديثي إليكم حول الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي الذي طبع تاريخ منطقتي الحديث كله تقريباً. لكنني لا أريد التحدث عن الفرص الضائعة، وإنما أود التركيز على ضرورة عدم إضاعة المزيد منها، وعلى الأسباب والكيفيات التي تستطيع بها الولايات المتحدة أن تتولى القيادة.

فالولايات المتحدة لديها مصلحة استراتيجية معلنة في إنهاء هذا الصراع، حيث أنه من المعلوم أن القليل من الأزمات في التاريخ قد انطوت على مثل هذا الكم الهائل من المخاطر، بدءاً من غياب الاستقرار الإقليمي وما ينتجه من العنف، إلى الانقسامات التي تسبب بها ذلك في أنحاء العالم كافة، وهي انقسامات أحسن المتطرفون استغلالها. لكن قليلاً من المواقف نجمت في المقابل، التي كان يمكن فيها لسلام عادل أن يجلب منافع كثيرة، ليس للفرقاء المعنيين فحسب، وليس للمنطقة وحدها، وإنما للعالم أجمع.

ومع ذلك، فإن الوقت يا أصدقائي لا يعمل لصالحنا. وكل يوم نخسره يجعل من أمر حل الأزمة أكثر صعوبة. وفي ذلك خطر يتهددنا جميعاً.

إنني أعلم أن الرئيس أوباما وفريقه يدركون ذلك، وقد سبق وأن قدم الرئيس إشارات مبكرة إلى أن السلام في الشرق الأوسط سيكون أولوية للولايات المتحدة. ونحن في الأردن نرحب بالتزامه وانخراطه. ولسنا وحدنا في ذلك، إذ أن كل دولة في الشرق الأوسط، بل وربما العالم كله، ينظرون إلى أميركا باعتبارها المفتاح لتحقيق السلام. وسوف تتعزز المصالح الاستراتيجية الأميركية بتحقيق تسوية سلمية، كما ستتعزز بها مصداقية أميركا في أعين العالم أيضاً.

وقد أصبحت معالجة هذه القضية، بشكل مباشر، حاجة ملحة. ولا يتطلب تحقيق النجاح في هذا المسعى مزيداً من الإجراءات، وإنما إحراز المزيد من النتائج، وهو ما يعني وضع خطة للتوصل إلى سلام شامل، سلامٍ يُبنى على إنجازات المفاوضات السابقة. كما يجب أن يكون هناك التزام قوي أيضاً بقيادة الجهود لضمان تحرك هذه المفاوضات بالسرعة الكافية باتجاه تحقيق تسوية على أساس حل الدولتين.

أصدقائي،

إننا لا نملك الوقت لإعادة الانخراط في عملية سلام أخرى بلا نهاية، فقد شهدنا ما ينجم عن عملية لا تحرز تقدماً حيث أفضت كل فرصة ضائعة إلى عزل المزيد من الناس على كلا الجانبين، ومن شأن استمرار مثل هذا الأمر زيادة الصعوبات وفقدان الثقة، وأن يقوي شوكة الساعين إلى الدفع بالفرقاء إلى المواجهة.

ومثل هذا المسار لا يمكن أن يساعد أياً من الفرقاء في الوصول إلى حيث يجب أن يكونوا. فحتى يحصد الفلسطينيون وعد القرن الحادي والعشرين، وكي يحقق الإسرائيليون الأمن الدائم الذي يسعون إليه، يجب وضع نهاية للاحتلال والمواجهة وبناء المستوطنات والأعمال أحادية الجانب في مدينة القدس، حيث ينبغي تحقيق سلام يفي بالحقوق المشروعة لكلا الطرفين: حق الفلسطينيين في إقامة الدولة، وحق الإسرائيليين في العيش بأمن.

إن إحدى المهمات الحيوية التي يمكن أن تضطلع بها الولايات المتحدة في الوقت الراهن هي مساعدة أصدقائها في التفكير والعمل ضمن هذه المعطيات الاستراتيجية. ويعني ذلك إدامة التركيز على الوجهة التي يرغب الفرقاء في الوصول إليها خلال عشر، أو عشرين أو ثلاثين سنة وأكثر، وعلى الآمال والآفاق التي يريدونها ويستشرفونها لأنفسهم ولأبنائهم، ثم تحديد اتجاه الوصول إلى ذلك المستقبل منذ الآن.

وبتركيز الجهود بإصرار لا يلين، سوف تحدد الولايات المتحدة المسار. لقد شرعت الأحداث فعلاً باختبار مدى مصداقية أميركا، ومن ذلك تصاعد الأصوات الإسرائيلية الداعية إلى إعادة عقارب ساعة المفاوضات إلى الوراء، بهدف تقويض ما تأسس من أجندة السلام. ومنها أيضاً أصوات متطرفة تعلو في العالم العربي مبشرة بالحرب. وعليه، فإنني آمل بأن توضح الولايات المتحدة أنها لن تسمح بالعودة إلى الوراء. فعناصر التسوية معروفة، وأجندة المفاوضات متفق عليها، وثمة هدف واضح: دولتان تعيشان جنباً إلى جنب، تتمتع كل منهما بالسيادة والقابلية للحياة والأمن. وهذه التسوية هي مصلحة أميركية أساسية، بقدر ما هي مصلحة لكم أن يرى العالم بلادكم تقود الطريق.

والأساس لذلك قائم في حقيقة الأمر. فقد وافق الفرقاء والمجتمع الدولي أجمع على حل الدولتين. وطوال سبع سنوات، وأمام كل الاستفزازات، صمدت مبادرة السلام العربية التاريخية. وهي مبادرة تحدد المعايير لإنجاز تسوية شاملة تنهي الاحتلال... وتقيم الدولة الفلسطينية... وتقدم ضمانات أمنية وعلاقات طبيعية لإسرائيل. وقد عبرت الدول الإسلامية في كل أنحاء العالم عن دعمها لهذه المبادرة أيضاً. وهو الأمر الذي يقدم لإسرائيل مكاناً في جوارها، وأكثر حيث إنه يعرض عليها أن تحظى بقبول ثلث أعضاء الأمم المتحدة، أي 57 دولة، التي لا تعترف بإسرائيل حتى الآن.

وبصوتها الواحد الذي يحظى بالإجماع، وبمنهجها الجاد، تشكل مبادرة السلام العربية أكثر الاقتراحات أهمية لإحلال السلام في تاريخ هذا الصراع. وقد حددنا نحن خيارنا المتمثل بتحقيقَ سلامٍ شاملٍ يفي بالحاجات المشروعة للجميع. ويجب على إسرائيل الآن أن تحدد خيارها: بين أن تندمج في المنطقة، وأن تَقبل بالآخرين ويقبلَها الآخرون، وأن تتمتعَ بعلاقات طبيعية مع جيرانها، أو أن تبقى قلعة إسرائيل المعزولة والمنكفئة على ذاتها، بينما تظل كل المنطقة رهينة لمواجهة لا تنتهي.

ودعوني أن أكون واضحاً هنا، حيث أن أي جهد إسرائيلي يهدف إلى إحلال التنمية الفلسطينية محل الاستقلال الفلسطيني لا يمكن أن يجلب السلام والاستقرار إلى المنطقة. ولا يمكن أن يمر الطريق إلى السلام سوى عبر حل الدولتين. وأي حل آخر لا يمكن أن يعرض العدالة التي يطالب بها الناس ويتوقعونها. ولا يمكن لأي حل آخر أن يعطي للناس سبباً لتحمل المخاطر التي يتطلبها السلام.

ويجب أن تعلم إسرائيل أن محاولة تأخير هذا الحل سوف تكون ذات آثار كارثية على مستقبلها، وعلى مستقبل الفلسطينيين. وأؤكد هنا أهمية شراكة الولايات المتحدة لمساعدة إسرائيل على قبول الفرصة التى يقدمها العالم العربي للعمل معنا والمضي قدما. والآن، حان الوقت للولايات المتحدة لقيادة المسيرة وضمان عدم إضاعة المزيد من الوقت. والفشل في التحرك يعني الخسارة للجميع. كما أن الوضع الراهن لا يمكن احتماله، بكل بساطة، والمخاطر التي ينطوي عليها أكثر وأكبر من أن يتم تجاهلها. وقد أصبحنا الآن أمام لحظة الحقيقة، بالنسبة لكل الذين يدّعون السعي إلى تحقيق السلام والعدالة. إنه وقت الشراكة والشجاعة والإقدام على الفعل.

وهذا الأمر كله يبدأ بوضع خطة سلام فاعلة للعام 2009 وما وراء ذلك، خطة للمفاوضات تثمر نتائج ملموسة وبسرعة، وتوقف الانجراف نحو المواجهة. أقول خطة، وليس عملية، ولهذا سبب وجيه، حيث أن مصطلح "عملية السلام" هو من صناعة التاريخ. وعندما تم نحته في السبعينيات، كانت الفكرة تقوم على كسر الجمود الذي وسم عقوداً من الطرق المسدودة والإخفاقات، عن طريق تبني منهج تراكمي. وقد شهدنا في العقود التالية فعلاً حدوث اختراقات وانفراجات، وبذل قادة عظام أمثال والدي الراحل جلالة الملك الحسين، طيب الله ثراه، ورئيس الوزراء إسحق رابين كل طاقتهم من أجل إحراز تقدم.

إنني لا أقلل اليوم من شأن تلك المنجزات عندما أقول إن هذه الفكرة القديمة قد وصلت إلى نهايتها، وبالتالي يجب أن تصل عملية السلام إلى نهاية، لأننا وصلنا إلى المرحلة الأخيرة من اللعبة، والتي يمكن أن تخرج منها كافة الأطراف رابحة.

واسمحوا لي أن أتناول بعض المجالات التي يمكن فيها للقيادة الأميركية الخلاقة أن تعزز التقدم نحو تحقيق ذلك الهدف.

ويقع أول هذه المجالات في فهم إطار العمل القائم في المنطقة. فالصراع الفلسطيني-الإسرائيلي لا يوجد في فراغ، كما أن أزمات المنطقة وأحداثها تظل متداخلة على نحو عميق. وعليه، يجب أن تكون أي سياسة ناجحة جزءاً من تصور شامل. ويشمل ذلك تقاسم العمل مع الشركاء الإقليميين. ولعل أحد الأمثلة على ذلك هو العمل الذي تقوم به الدول العربية فعلياً لدعم المصالحة الفلسطينية. وسوف يكون من شأن الدعم الدولي أن يدفع بهذا الجهد إلى الأمام. كما تستطيع سياسات الولايات المتحدة، في هذه الشأن وما يناظره، أن تساعد في تعزيز قوى الاعتدال في المنطقة.

وثمة مجال مهم ثانٍ للقيادة الأميركية، يتمثل في تعزيز أساس السلام. فالمساعدات التنموية لن تنجح إذا ما تم تصميمها لتكون بديلاً عن الاستقلال الفلسطيني. لكن الاستقلال سيكون ناجحاً بشكل أفضل ما يكون عندما يخلق الفرص لممارسة حياة يومية طبيعية ومثمرة. ويجب إيجاد فوائد وحوافز يكون من شأنها خلق وإدامة الشروط الملائمة للتعايش والتقدم.

ويقع المجال الثالث للقيادة الأميركية في الرسائل القوية التي تعبر عنها أعمالكم، وبخاصة ما يخص استجابتكم للمعاناة الفلسطينية. وسوف تصل الإشارات عندما تضمن الولايات المتحدة وصول الإغاثة إلى غزة وإعادة إعمارها، وعندما تقدم المساعدات الإنسانية للضفة الغربية. لكن بالوسع إرسال الإشارات أيضاً عندما تعمل بلادكم، أو تخفق في العمل على مواجهة صعوبات الحياة اليومية في الضفة الغربية... وفي مواجهة بناء المستوطنات غير المشروعة، وضد الإجراءات الإسرائيلية أحادية الجانب في مدينة القدس، التي تجبر المقدسيين عربا ومسلمين ومسيحيين على المغادرة، أو تهدد المواقع الإسلامية والمسيحية المقدسة. ويجب أن يكون التزام الولايات المتحدة بإقامة الدولة الفلسطينية واضحاً لا يكتنفه الغموض، وبالأفعال كما بالأقوال، وهو أمر مركزي في تحديد موقف أميركا وصورتها، ليس في المنطقة فحسب، وإنما في جميع أنحاء العالم الإسلامي.

واسمحوا لي القول إن العرب والمسلمين في كل أنحاء العالم قد لاحظوا التزام الرئيس في حفل تنصيبه بالسعي نحو إقامة شراكة جديدة قائمة على الاحترام والمصلحة المتبادلة. وقد لاقت مبادرته استقبالاً حسناً في العالم العربي منذ ذلك الوقت.

وتحتاج هذه البداية الطيبة إلى المضي قدماً وبلا توقف. وثمة حاجة أيضا إلى بذل جهد أميركي رفيع المستوى لإعادة إحياء المفاوضات الثنائية. وعندما يصل الفرقاء إلى مائدة التفاوض، يجب أن يستمر الدعم الأميركي أيضاً. وحيث ينسد الطريق عند مناقشة القضايا الصعبة، دعوا الولايات المتحدة تكسر الجمود باقتراح حلولها الخلاقة الخاصة. ويجب أن يكون محط التركيز، منذ البدء وحتى الخاتمة، هو إنجاز اتفاق سلام نهائي، اتفاقٍ يعكس الحل الوحيد القابل للحياة لهذا الصراع... حلَّ الدولتين الذي سيفتح الباب أمام تحقيق سلام شامل في الشرق الأوسط.

أصدقائي،

تتوج هذه السنة 60 عاماً من الروابط الدبلوماسية بين الأردن والولايات المتحدة. وقد خضعت علاقاتنا لاختبارات الأزمات. كنا نقول الحقيقة كلٌّ للآخر، ويستمع واحدُنا إلى الآخر، وكنا نعمل معاً وسوية. كانت لدينا اختلافاتنا، وهذا هو حال الأصدقاء. لكننا لم نحول أبصارنا أبداً عن قيمة شراكتنا الاستراتيجية، أو عن الأهداف الحيوية التي نتقاسمها والمتمثلة بالسلامِ والازدهارِ والأمن.

واليوم، نقف معاً أمام لحظة حرجة أخرى. فالمشكلات الإقليمية معقدة وحقيقية. لكننا شهدنا في عالمنا تحولات إيجابية عندما تكون المصالح الاستراتيجية واضحة. ويحتاج الفرقاء، والمنطقة، والعالم كله بعمق إلى هذا السلام. وكلهم يراقبون كيف ستقود أميركا الطريق.

إنني أعتقد بأن السلام يمكن أن ينجح، ويجب ألا نقبل بأقل منه. وفي سياق الجهد المبذول لتحقيق ذلك، أعلن التزامي بشراكة الأردن المستمرة. تماماً مثلما نطلب من الفرقاء أن يفعلوا، فلندع أصدقاء السلام أيضاً يبدأون بالتفكير في شكل الصورة الاستراتيجية. وبعد عشر سنوات، وبينما يلتئم شملنا هنا، يمكن أن نكون، بل ينبغي أن نكون، بصدد الحديث عن تحديات حياة ما بعد السلام... وعن الكيفية التي نعزز بها حقبتنا الجديدة من التعايش الكوني. لكننا حتى ننجز ذلك في العام 2019، فإن علينا أن نكون قادرين أيضاً على القول حينذاك: إن بلدانَنا قد فعلت ما كان ينبغي عليها فعله في العام 2009 بكل الشجاعة والرغبة في العمل.

ولكم مني جزيل الشكر.