خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني خلال مؤتمر "نهضة الأمة: حوار الأديان، والإسلام من أجل السلام والحضارة"
خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني خلال مؤتمر "نهضة الأمة: حوار الأديان، والإسلام من أجل السلام والحضارة"
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
شكرا لكم. إنه لشرف لي أن أساهم في دعم جمعية نهضة العلماء في مساعيها لتعزيزالحوار. وإليكم جميعا: إلى المجتمع المسلم العظيم في اندونيسيا، وللأصدقاء من جميع الأديان، ولمواطني اندونيسيا، أحمل التحيات والسلام من الأردن وشعبه.
وأود أن أعرب عن تعازينا الحارة لفقدان اندونيسيا هذا العام أحد أبنائها البارزين، وشخصية معروفة للأمة، وهو الشيخ الجليل محمد أحمد سهل محفوظ.
واسمحوا لي أيضا أن أتقدم بخالص تعازي الأردن لضحايا الكوارث الطبيعية التي حدثت مؤخرا في اندونيسيا. وندعو الله عز وجل أن تسترد بلادكم كامل عافيتها سريعا.
حضرة رئيس المؤتمر،
أصحاب الفضيلة والمعالي والسعادة،
الإخوة والأخوات،
قبل وقت طويل من نشوء العالم الحديث المعولم، كان هناك الأمة، أي المجتمع المسلم الواحد على إمتداد العالم. وقبل وقت طويل من تقارب الثقافات المتباعدة بفضل التقنيات الحديثة، كان الإسلام مضرب المثل في التعايش السلمي والمساواة في الكرامة بين جميع الناس.
وهذه هي رسالة الإسلام الحنيف الحقيقية المتسامح والتعددي، والقائم على المذاهب، والمكرس لمحبة الله، والإقتداء بالنبي محمد، عليه الصلاة والسلام، والداعي لحياة تسودها الفضيلة ومعاملة الآخرين بالإحسان والعدل.
وتعد القيم الروحية والاجتماعية للإسلام في غاية الأهمية لمستقبل العالم. ولكل مسلم دور يلعبه – خاصة أبناؤنا وبناتنا الشباب – للمساعدة في إرشاد البشرية إلى الطريق الصحيح، والعمل مع الآخرين على حل المشاكل، ومواجهة التحديات واغتنام الفرص.
وللأسف، فإننا نجد اليوم قوى تسعى لدفع هذا المستقبل إلى الخلف، من خلال إثارة النعرات الدينية والعرقية. ففي الأزمة السورية، نشهد استغلال الانقسامات الطائفية لتبرير العنف والسعي إلى إستحواذ السلطة. لكن الشرق الأوسط ليست المنطقة الوحيدة التي تعاني من ذلك، فمخاطر الصراع الديني تهدد الأمة بأكملها، بل الإنسانية جمعاء. ويجب علينا أن نستجيب جميعا لهذا التحدي.
وتبدأ استجابتنا بتقوية صوت الإسلام الحنيف المعتدل. وأنا أعلم علم اليقين أن الكثيرين منكم، والعديد في جميع أنحاء آسيا، يعملون لتحقيق هذا الهدف، وهو غاية رسالة عمان أيضا، التي أفخر أنني أطلقتها قبل عشر سنوات، حيث تبرز هذه المبادرة تعاليم الإسلام القائم على التسامح، والتواضع لله، والرحمة، والتعايش السلمي.
وقد أتبعنا إطلاق هذه الرسالة العظيمة بجهود للتواصل على مستوى العالم أجمع. وأنا ممتن لإخوتنا في اندونيسيا حيث كانوا شركاءنا في هذا الجهد. وكانت النتيجة: إجماع تاريخي بين العلماء المسلمين من جميع أنحاء العالم – وهو الأول من نوعه منذ 1400 عام – حيث اتفقوا على تعريف من هو المسلم، وحرَّموا التكفير، واعترفوا اعترافا صريحا بصحة المذاهب الإسلامية الثمانية: الحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي، والجعفري، والزيدي، والأباضي، والظاهري.
وتكشف رسالة عمان، بموادها الثلاثة، الادعاءات الكاذبة لأولئك الذين يستغلون الدين ليفرقوا بيننا. وكما قال الله تعالى في كتابه العزيز:
بسم الله الرحمن الرحيم،
"إنما المؤمنون إخوة، فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون"
صدق الله العظيم
أيها الإخوة والأخوات،
في الصيف الماضي، اجتمع قادة وعلماء مسلمون من مختلف أنحاء العالم في عمان، وأدانوا بحزم التحريض على الفتنة الطائفية بين السنة والشيعة. وأقر هؤلاء القادة بأن مبادئ الشريعة الإسلامية والمُثُل الديمقراطية تكمِّل بعضها بعضا، وأن النموذج الأكثر جدوى للدولة الإسلامية المستدامة والقابلة للحياة هو الدولة المدنية، القائمة على المؤسسات والشورى والعدل. وأكدوا على حرية الرأي والعقيدة، وحرمة دم الإنسان.
ويتوجب علينا جميعاً إدخال هذه المعرفة إلى المدارس والجامعات والمساجد ووسائل الإعلام وغيرها. كما علينا الاستمرار في العمل معا ¬– كما نفعل هنا اليوم – لتعزيز تعاليم إسلامنا الحبيب للوصول إلى الآخرين، ورأب الانقسامات.
وعلينا جميعا واجب نؤديه فورا، وهو السعي لحل الأزمة في سوريا. وكما هو عهده دائما، تعامل الأردن بالرحمة، ومد يد العون لمئات الآلاف من الأسر. وبالفعل، فإن بلدنا يستضيف اليوم أكثر من 600 ألف لاجئ سوري. ويتطلب هذا العبء الإنساني الكبير أن يقدم العالم يده لنا للمساعدة.
وكأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي، علينا أن نعمل جنبا إلى جنب مع المجتمع الدولي لتقديم الإغاثة الإنسانية، ووضع حد لإراقة الدماء، ومساعدة الأطراف على التوصل إلى حل سياسي سلمي، والحفاظ على وحدة سوريا وسلامة أراضيها، وتحقيق تطلعات الشعب السوري الشقيق.
ويتحتم علينا أيضا أن نجد حلا لأزمة المنطقة الأطول أمدا، وهي الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فالتطرف يزدهر عبر استغلال معاناة ويأس الناس. لكن العالم الإسلامي يقدم هنا وبصوت جماعي رسالة بديلة، فقد تبنى الأردن، وأندونيسيا، والأعضاء الخمس وخمسون الآخرون في منظمة المؤتمر الإسلامي بالإجماع مبادرة السلام العربية، من أجل تسوية نهائية، وحل جميع قضايا الوضع النهائي، على أساس حل الدولتين. ويجب أن نسعى معا وبلا كلل إلى مفاوضات تضمن مستقبلا من السلام والعدل يشهد قيام دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة وذات سيادة، ضمن حدود عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.
أصدقائي،
يشترك سكان العالم في إنسانيتهم. والشعار الوطني لاندونيسيا "الوحدة في التنوع" ينطبق علينا جميعا. ونحن مدعوون إلى الجدية في السعي لتعزيز الحوار والتفاهم العالمي.
قال الله تعالى في كتابه الكريم:
بسم الله الرحمن الرحيم
يا أيها الناس، إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير
صدق الله العظيم
أيها الأخوات و الإخوة،
يحتفي مؤتمركم اليوم، وبشكل خاص، بأهمية قيمة التفاهم المتبادل. ويشعر الأردنيون دوما بهذه المسؤولية المشتركة، وعليه فقد انطلقنا من وطننا في الأراضي المقدسة، حيث تعيش الأديان الثلاثة، ومددنا يدانا للعالم كله.
ولقد قربت مبادرة "كلمة سواء"، التي أطلقناها، المسافات بين المسلمين والمسيحيين، حيث عكست الجوامع الأساسية بين الديانتين، وهي أن تحب الله وأن تحب جارك. وهناك أيضا العديد من مبادرات الحوار بين الأديان التي كنا دوما، وبنعمة من الله، من روادها، أردنيا وإقليميا وعالميا، بما في ذلك المؤتمر الذي عقدناه الصيف الماضي حول التحديات التي تواجه المسيحيين العرب، والمنتدى العالمي الكاثوليكي الإسلامي، وإنشاء الحديقة الوطنية في موقع تعميد السيد المسيح عليه السلام، وغيرها الكثير.
كما حظي القرار الذي اقترحه الأردن لإطلاق "الأسبوع العالمي للوئام بين الأديان" بالإجماع في الجمعية العامة للأمم المتحدة. وهذا العام، إن شاء الله، سأعمل على تقديم جائزة لأفضل حدث عالمي في سياق الاحتفال بإسبوع الوئام بين الأديان.
إننا إذ نأخذ على عاتقنا إطلاق وتنفيذ هذه المبادرات وغيرها، فإن دافع ذلك ليس فقط واجبي كسليل النبي محمد، عليه الصلاة والسلام، وراعي الأماكن المقدسة المسيحية والإسلامية في القدس، بل خدمة لأمتنا، التي تعتبر الحوار فرض كفاية، والحمد لله وحده على كل ذلك.
أصدقائي،
إن حققنا نحن والآخرون القبول والاحترام المتبادلين، فإننا بذلك نبني المستقبل الذي يستحقه أبناؤنا وبناتنا.
فأينما وجد النزاع، يمكن للحوار أن يحقق السلام. وإذا ما حل السلام، يمكن للحوار تحقيق الوئام. وحيثما وجد الوئام، يمكن للحوار أن يحقق الصداقة. وعندما تنشأ الصداقة، يمكن للحوار أن يحقق العمل المشترك المفيد للجميع.
هذه هي مهمتكم اليوم، وهي أيضا مهمتنا التي سنعمل على إنجازها معا في مقبل الأيام. والأردن معكم لبيان الحقيقة، وتعظيم التسامح والاحترام المتبادل بين الناس. والله ولي التوفيق.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.