كتاب التكليف السامي لفايز الطراونة
بسم الله الرحمن الرحيم
عزيزنا دولة الأخ الدكتور فايز الطراونة، حفظه الله ورعاه،
يسرني أن أبعث إليك بتحية المودة والتقدير، والدعاء لك بموفور الصحة والسعادة والتوفيق، وبعد:
فقد عرفتك على إمتداد مسيرة عملك وعطائك في سائر الميادين والمواقع التي تحملت فيها أمانة المسؤولية، وكنت على الدوام جنديا من جنود الوطن المخلصين الأوفياء، ومثالا في الإنتماء والحرص على أداء الواجب، والتصدي للتحديات بكل كفاءة وتميز، وبروح من الإيثار والتضحية ونكران الذات، وتغليب المصلحة الوطنية العليا على كل المصالح والإعتبارات. وسيحفظ لك الأردنيون ما قدمت وأعطيت لوطنك طيلة العقود الماضية، وبخاصة في مراحل دقيقة وحساسة من تاريخ وطننا العزيز.
وبعد أن قبلنا استقالة حكومة دولة الأخ عون الخصاونة، آخذين بعين الاعتبار ما نستشرفه من تواصلنا الدائم مع شعبنا العزيز، ووقوفنا المستمر على توجهات الرأي العام، وأولويات مختلف أطياف المجتمع الأردني، وحرصنا الدائم على تلبية طموحات شعبنا وحقه في الحرية والديمقراطية والحياة الكريمة، ونظرا لما تتمتع به من علم ومعرفة وخبرات واسعة في مجال العمل العام، وما تحليت به من أمانة وإخلاص وسيرة عطرة، فإنني أعهد إليك بتشكيل حكومة جديدة تكون أولويتها الأولى إستكمال مسيرة الإصلاح بمختلف جوانبه السياسي والاقتصادي والإجتماعي، التي أطلقناها منذ اليوم الأول لتحملنا أمانة المسؤولية.
وعلى ذلك، فإن تكليف هذه الحكومة لفترة إنتقالية محددة مرهون بإستكمال إنجاز منظومة القوانين والتشريعات الإصلاحية السياسية وإخراجها إلى حيز التنفيذ، وصولا إلى النقطة التي تمكننا من إجراء الإنتخابات النيابية، وما يترتب على ذلك من الإستحقاقات الدستورية القائمة على الفصل بين السلطات، وإطلاق الحريات، وترسيخ مسيرتنا الديمقراطية، وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية في صنع القرار، وكل ذلك في مناخ من الحرية والتعددية وإحترام الرأي الآخر في إطار من الحوار الوطني الهادف البناء، الذي يستند إلى ثوابتنا الوطنية، ورؤيتنا الواضحة لأردن المستقبل، وتغليب المصلحة الوطنية على كل المصالح والإعتبارات، والتي تلبي تطلعات أبناء وطننا العزيز في الإصلاح الشامل.
وفي تفاصيل هذه الرؤية، لا بد من التأكيد على المحاور التالية:
أولاً: إن مبدأ الفصل بين السلطات مبدأ أساسي في الدستور، ويجب الإلتزام به، بحيث لا تتغول أي من هذه السلطات على الأخرى، ولا تستقوي عليها، ولا تتدخل في شؤونها، وأن تكون العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية في أعلى مستويات التعاون والتنسيق، والحرص الحقيقي على إنجاز القوانين والتشريعات التي تشكل أساس مسيرتنا الإصلاحية، وبغير ذلك تتعثر المسيرة، ويكون الإنجاز دون المتوقع والمطلوب منهما. ويجب أن يتجلى هذا التعاون الكامل في أولوية إنجاز قوانين الأحزاب، والمحكمة الدستورية، والانتخاب، وأي تشريعات أخرى تتطلبها هذه المرحلة.
ثانيا: لا بد من الإسراع في تشكيل الهيئة المستقلة للإشراف على الانتخابات وإدارتها، وتقديم الدعم اللازم لبناء قدراتها وفق أفضل الممارسات الدولية، ليتسنى لها إتخاذ الإجراءات والترتيبات التي تحدد آلية عملها، لتمكينها من إجراء الإنتخابات النيابية والإشراف عليها، بحيث تكون ضامنا لنزاهة وحيادية وشفافية العملية الانتخابية.
وهنا تبرز ضرورة أن يضمن قانون الانتخاب لمجلس النواب تمثيلاً حقيقياً لجميع الأردنيين في أرجاء الوطن العزيز على إختلاف توجهاتهم الفكرية والسياسية، مع مراعاة تحقيق أكبر قدر من العدالة في التمثيل، على أن يتم كل ذلك في أسرع وقت ممكن، تمهيدا لإجراء الإنتخابات فور الإنتهاء من إتخاذ الإجراءات والترتيبات اللازمة لذلك قبل نهاية هذا العام.
أما الإنتخابات البلدية، فلا بد من تحديد موعد قريب لإجرائها لتفعيل مبدأ الحكم المحلي، وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية في صنع القرار وتمكين المواطنين من ترتيب أولوياتهم، والنهوض بمجتمعاتهم المحلية.
ثالثاً: إن إنجاز القوانين الإصلاحية السياسية يجب أن يستند على الدوام إلى التواصل مع مختلف مكونات واتجاهات الطيف المجتمعي والسياسي الأردني، من خلال حوارات معمقة تجرى بأعلى مستويات المسؤولية والإنفتاح، وصولاً إلى أكبر قدر من التوافق الوطني على هذه القوانين المحورية، فهي التي ستحدد مستقبل الأردن الغالي في القادم من السنوات.
رابعاً: إن الإعلام هو أحد أهم أدوات تشكيل الرأي العام، وهو حلقة وصل فاعلة بين المواطن والمسؤول، وهو رافد أساسي لمسيرة التنمية، ورقيب على سلامة المسيرة والسياسات والإجراءات. ولذلك، لا بد من تبني استراتجية إعلامية وطنية تقوم على مبدأ إحترام رسالة الإعلام وحريته والإرتقاء بمستواه المهني، وحقه في الحصول على المعلومة الصحيحة، حتى يتمكن من توضيح ما تم إنجازه، وما سيتم في مسيرة الإصلاح، والإشارة إلى مواضع الخلل والتقصير بكل شفافية ومهنية ومصداقية، بعيدا عن الغوغائية والبحث عن الإثارة والإساءة لصورة الوطن ومسيرته وإغتيال الشخصية، وإثارة الفتن والنعرات.
خامسا: إن تلازم الإصلاح السياسي والاقتصادي هو من الركائز الراسخة في نهجنا الإصلاحي. وعليه، فإننا نؤكد أهمية المضي بهما قدما بشكل متواز ومتكامل.
إن الظروف والتحديات الاقتصادية العالمية والإقليمية التي تحيط بنا تتطلب الاستجابة والتصدي لها بالاستناد إلى سياسات وخطط مدروسة قادرة على التخفيف من الظروف الاقتصادية الصعبة التي يواجهها الأردنيون والأردنيات، ومراعاة جملة من المطالب الاقتصادية العادلة التي مازالت تشكل دافعاً أساسيا للمطالب الشعبية، التي نقف إلى جانبها كما كنا على الدوام.
وفي المجال الاقتصادي أيضاً، فإننا نوجهك بضرورة بلورة سياسات اقتصادية وتنموية محورها الأساس المواطن. فبالرغم من الإنجازات الاقتصادية، إلا أنها دون الطموح. وتبقى متلازمة البطالة والفقر همنا الأوّل. فأولوية الحكومة هي توفير فرص العمل بالتعاون مع القطاع الخاص، من خلال جذب وتعظيم الاستثمارات المحلية والعربية والأجنبية، ومحاربة الفقر وفق أفضل الممارسات العالمية في هذا المجال وبما يحفظ كرامة المواطن ويحقق له مستوى لائق من العيش الكريم. وفي هذا الإطار، يجب مراجعة سياسات العمل والتشغيل لوضع برامج التأهيل والتدريب، لتكون الأولوية للعمالة الأردنية في مختلف القطاعات.
وبالتوازي، فلا بد من العمل لاستعادة أكبر قدر ممكن من توازن الموازنة العامة للدولة، بتقليص الفجوة بين الإيرادات والنفقات عبر سياسات مالية حصيفة تؤكد للمواطن بأن الحكومة تقود الاستجابة للوضع المالي الصعب، عبر إجراءات مالية مسؤولة ومدروسة تراعي الصالح العام ومصلحة الوطن دون سواهما.
ولا بد أيضاً من حماية المواطن من أثر التضخم في الأسعار والخدمات وتآكل الدخول من خلال التوصل إلى قانون لحماية المستهلك.
ومن أولوياتنا أيضاً حماية المواطنين في المحافظات وتمكينهم اقتصادياً. فالاختلالات في توزيع عوائد التنمية وتركز النشاط الاقتصادي في أماكن محددة ولد شعوراً لدى بعض المواطنين بالتهميش. وفي هذا الصدد، فإننا نرى في صندوق تنمية المحافظات وسيلة عملية للوصول إلى تنمية عادلة تعم جميع محافظات المملكة، على أن يتم إشراك المواطنين في تحديد أولوياتهم وأوجه الإنفاق المتأتي من هذا الصندوق لأنهم الأقدر على تحديد احتياجاتهم التنموية. وعلى الحكومة الإسراع في إخراج هذا الصندوق إلى حيز الوجود والتنفيذ بوضع الأطر القانونية المستندة لأفضل الممارسات، وتوفير مصادر التمويل اللازمة.
ويندرج ضمن توجهات الإصلاح الاقتصادي أيضاً أهمية اتخاذ مواقف جدية وشفافة ومسؤولة في التصدي لكل حالات وشبهات الفساد. وإن قضاءنا العادل النزيه، وحده ودون غيره، هو الحكم والفيصل في هذه الحالات. وعلى ذلك، فإنني أؤكد على ضرورة تحويل قضايا الفساد إلى القضاء ليقول كلمته فيها، حتى لا يظن أحد أنه بمنأى عن المساءلة والمحاسبة، أو أنه فوق القانون. فالأردنيون أمام القانون سواء، ولا حصانة لمسؤول، ولا حماية لأحد من يد العدالة.
إن الأردن، الذي يتطلع إليه الجميع، هو الوطن النموذج الذي يحترم حقوق المواطنيين ويرعى مصالحهم ضمن سيادة القانون. وفي هذا المجال، فإننا نوجه الحكومة بضرورة وضع ميثاق لتعزيز منظومة النزاهة الوطنية بالتعاون والتنسيق مع جميع المؤسسات الرقابية ومؤسسات المجتمع المدني المعنية، لترسيخ أنظمة المساءلة ومحاربة الفساد على أسس شفافة وموضوعية.
سادسا: إن محدودية الموارد الطبيعية كانت ومازالت تشكل عائقا أمام قدرة الإقتصاد الأردني للإعتماد على الذات. وقد شكلت تحديات الطاقة وإرتفاع أسعارها عالميا عبئا ثقيلا على خزينة الدولة. وعلى ذلك، فلا بد من إتخاذ إجراءات فورية تنفيذية لتنويع مصادر الطاقة، والبحث عن مصادر جديدة بما فيها الطاقة البديلة والمتجددة، وإستكمال الإجراءات التنفيذية للمشاريع الكبرى في مجالات حيوية، خصوصا في قطاعات المياه والطاقة.
سابعا: إن المرحلة التاريخية التي يمر بها وطننا في طريقه نحو التحديث والديمقراطية وتعظيم المشاركة الشعبية تتطلب الإستمرار في التعامل الحضاري مع كل مظاهر الاحتجاج والمطالبات بإستيعاب وتفهم لدوافعها، لتكون رافدا للعمل الشعبي المنظم الذي يثري المسيرة، ويعزز المشاركة، ويضمن تمتين الثقة بين الدولة ومؤسساتها والشعب.
ثامنا: أما قواتنا المسلحة والأجهزة الأمنية، عين الوطن الساهرة، فإننا مستمرون بدعمها وتمكينها ورفدها لأنها درع الأردن وسياجه المنيع، ونوجه الحكومة على الإستمرار في دعمها وتوفير متطلبات تطويرها وتحديثها، من أجل أمن وسلامة واستقرار الوطن ورفعة شعبه.
تاسعا: إننا مستمرون في الإلتزام بثوابتنا في الدفاع عن قضايا العروبة والإسلام وفي مقدمتها القضية المركزية: القضية الفلسطينية العادلة. وسنواصل دعم أشقائنا في صمودهم وثباتهم، وصولا إلى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة والقابلة للحياة على خطوط الرابع من حزيران عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وعلى التراب الوطني الفلسطيني، وعلى أساس حل الدولتين، الذي يحظى بالدعم والقبول العربي والدولي. وسنستمر بالقيام بدورنا الهاشمي التاريخي في رعاية وحماية المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس الشريف.
عاشرا: وفي ضوء ما تواجهه منطقتنا العربية من تحديات الاستقرار والتنمية، فإننا سنضاعف من جهودنا لتعميق التعاون والتضامن العربي وتنسيق المواقف لما فيه مصالح أمتينا العربية والإسلامية، والحفاظ على علاقاتنا الدولية المميزة، والبناء عليها وتنميتها.
دولة الأخ العزيز،
إنني إذ أعهد إليك بأمانة المسؤولية في هذا المرحلة الدقيقة من تاريخ الوطن والمنطقة بأسرها، فإنني لعلى ثقة كبيرة بكفاءتك وقدرتك على إختيار الفريق الوزاري القادر على مواصلة المسيرة ومواجهة التحديات، وتحقيق طموحات وتطلعات أبناء وبنات شعبنا الوفي.
وإنني بانتظار تنسيبك بأسماء من يقع عليهم إختيارك لتشكيل فريقك الوزاري، بعد إجرائك المشاورات الضرورية، وضمن إطار زمني يمكنك من إختيار هذا الفريق من المؤمنين برؤيتنا الإصلاحية، وممن عرفوا بالكفاءة والنزاهة والقدرة على تحمل المسؤولية، وكلنا ثقة بالمستقبل المشرق لهذا الوطن، بإذن الله، وسأكون لكم الأخ والسند والمؤازر.
ولنبدأ جميعا بروح وطنية خالصة مرحلة جديدة تمكننا من الإرتقاء بالحوار إلى حوار وطني مبني على أسس الإحترام والعلم والمعرفة والحقائق والموضوعية، والإبتعاد عن هدم الذات والسلبية، للنهوض بالوطن ومواجهة التحديات لما فيه خير أبنائه وبناته.
داعيا الباري عز وجل أن يحفظ الأردن، ويتمم مسيرته على الخير والصلاح، وأن يسدد خطاكم على درب النهوض بالوطن وخدمة المواطن.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
عبدالله الثاني ابن الحسين
عمان في 5 جمادى الآخر 1433 هجرية
الموافق 27 نيسان 2012 ميلادية