حان الوقت للعودة إلى العولمة، ولكن لنطبقها بالشكل الصحيح هذه المرة
لا أذكر السياق الذي قيل فيه ذلك بالضبط، ولكني فوجئت مؤخراً عندما ذكر لي أحد المسؤولين أنني أصبحت الأطول خدمة كقائد دولة عربي، فتسارعُ وتيرةِ الأحداث وكثرتها على مدار العقدين ونيف الماضيين، من حروب وهجمات إرهابية ونزاعات في المنطقة وموجات من اللجوء وأزمات مالية، جعلت الأعوام تتداخل ببعضها البعض.
وبمجرد ما بدأت أظنّ بأنني قد مررت بكل التجارب الممكنة، أقبل علينا فيروس كورونا المستجد.
لا أستطيع أن أتذكّر وقتاً سابقاً كانت فيه نفس القضية على رأس أولويات كل قائدٍ على هذا الكوكب، وهذه الحقيقة التي نعيشها تؤكد مدى غرابة هذه اللحظة في تاريخنا، ولكن الأولويات المشتركة لا تترجم دائماً إلى عمل مشترك.
من المُطمئن رؤية القطاع الطبي حول العالم يعمل على تبادل المعلومات، بينما يسعى الأطباء والباحثون للوصول إلى علاج، وعلى الرغم من ذلك، لا يمكننا تجاهل حقيقة أن هذا العدو العابر للحدود ظهر عندما دخل مصطلح "تفكيك العولمة" إلى معجمنا، بفضل بروز القوميات الوطنية الضيقة، وسياسات الحماية الاقتصادية، وبث الشكوك والريبة حول التعاون العابر للحدود بجميع أشكاله.
بالفعل، شهدنا خلال العقدين الماضيين لحظات جمعت بين البشرية في حزن أو خوف أو غضب مشترك، فجميعنا يذكر بوضوح ذلك اليوم المظلم حين اصطدمت الطائرات ببرجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، مما شكّل بداية لعصر جديد من جنون الإرهاب، ومرّت بلدان عديدة بتجاربها الخاصة مع الصدمات التي لا تُمحى من ذاكرتها بفعل الإرهاب، مثل تفجيرات الفنادق في عمان، والهجوم على قاعة احتفالات في مانشستر، أو مدرسة للفتيات في نيجيريا، أو حفل موسيقي في باريس، أو مساجد في نيوزيلندا، أو كنائس في سيريلانكا، أو معابد يهودية في الولايات المتحدة، وغيرها الكثير، وبغض النظر عن المسافات بين هذه الحوادث، كان الإحساس بالحزن على مستوى شخصي للجميع.
ومع ذلك، فإن لحظات الوحدة التي تبعت هذه الأحداث، كمثيلاتها التي تبعت الأزمات المالية والكوارث الطبيعية التي واجهناها أيضاً على مر السنين، لم تدم طويلاً بما فيه الكفاية لتدفعنا إلى إعادة التفكير بأنظمتنا الدولية بشكل جذري. وفي الكثير من الأحيان، كانت استجاباتنا تأتي على شكل حلول مؤقتة قصيرة المدى، لا ترقى للإمكانيات التي يمكن تحقيقها باستخدام التكنولوجيا الحديثة.
وفي الشرق الأوسط، أدركنا أن علينا اتّباع نهجٍ مختلف في محاربة الإرهاب، وعرفنا أن أملنا الوحيد في هزيمته معلقٌ على إزالة الحواجز بين البلدان وبين المؤسسات داخل تلك البلدان، وقد أدرك الأردن الحاجة إلى منصة مشتركة لتعزيز التنسيق بين الشركاء الإقليميين والدوليين، لذا أطلقنا مبادرة "اجتماعات العقبة" لتمكين جميع الشركاء من مكافحة التطرف والإرهاب من خلال الاستغلال الأمثل للموارد، وتبادل المعلومات، وتحديد نقاط الضعف التي يجب معالجتها، وتجنب الازدواجية في الجهود.
أما اليوم، فقد قرر عالمنا أن يدقّ ناقوس الخطر، وعلى عكس التهديدات التي واجهها العالم سابقاً، نحن جميعاً نواجه اليوم هذا التهديد معاً، وفي آن واحد، فهذه الأزمة قد سلّطت الضوءَ على عيوب نظامنا العالمي، تلك العيوب التي نشأت نتيجة الظلم الاجتماعي، وتفاوت الدخل، والفقر، وسوء الحوكمة.
وبينما يأمل الكثيرون أننا سنتمكن من إعادة بناء عالمنا بعد هذه الجائحة، فإن ذلك لن يكون كافياً، إنما يجب أن ينصبّ تركيزنا على ابتكار ما هو جديد، وما هو أفضل.
فبدلاً من "تفكيك العولمة" الذي ينادي به البعض، أرى أن لدينا الكثير لنستفيده من "إعادة ضبط العولمة"، ولكن هذه المرة، علينا أن نركّز على تطبيقها على النحو الصحيح، لنصل إلى التكامل في عالمنا من جديد، بحيث يكون هدفنا المحوري هو تحقيق المنفعة لشعوبنا، وأن نسعى إلى إعادة ضبط العولمة لتعزيز وبناء القدرات في بلداننا، وللتعاون الحقيقي فيما بيننا، عوضاً عن التنافس، ولنعترف في إعادة ضبط العولمة بأن بلداً واحداً بمفرده، لا يُمكن له أن ينجحَ، لأن إخفاقَ بلدٍ واحد هو إخفاقُنا جميعاً.
هذا يعني إعادة ضبط عالمنا وأنظمته، علينا إعادة تشكيل المؤسسات الدولية وبناء مؤسسات جديدة أينما دعت الحاجة، علينا إطلاق وإدامة منظمات جديدة تبني على مهارات وموارد مختلف القطاعات وتعبر الحدود بين الدول، والأردن على أتم الاستعداد للبناء على تجربته في مبادرة "اجتماعات العقبة" للمساعدة في هذه الغاية كيفما استطاع، فالتهديدات لا تأتي فرادى، وعليه، فإن الحلول لا يمكن أن تكون كذلك.
وهذا ينطبق بشكل خاص على منطقتي، فإننا كبلدان عربية لا نملك خياراً سوى العمل معا للتخفيف من حدة أثر هذه الجائحة علينا جميعاً؛ إذ إنّ الموارد الطبيعية التي كنا نعتمد عليها لتحمينا، لم تعد تكفي الآن، علينا أن نضع خلافاتنا جانباً وأن ندرك أن خصومات الأمس لم تعد تعني شيئاً في مواجهة هذا التهديد المشترك، علينا أن نستغل مواطن قوتنا وموارد كل بلد لنشكّل شبكة أمان إقليمية تحمي مستقبلنا المشترك.
البطالةُ والمجاعةُ والفقرُ في انتظارنا إن لم نعمل معاً، ويتعين علينا أن نعالج فجوة الفرص العالمية، بما في ذلك إمكانية الوصول إلى الرعاية الصحية، وأن نعيدَ النظرَ في النماذج والمقاييس التي تستخدمها الهيئات المالية الدولية في الأسواق الناشئة لنتمكن من رواية القصة بأكملها على نحو أفضل.
فيروس كورونا هو تهديد يواجه كل قائد حول العالم، ولكن إذا أردنا التغلب عليه، فعلينا أن نقوم بما قد يتعارض مع ما اعتدنا عليه، علينا أن نضع السياسة والسعي إلى الشعبية جانباً، كما يتعين علينا أن نقوم بعكس ما أمرنا به الطبيب، علينا أن نتقارب وأن نعمل معاً، ولمواجهة هذا التهديد الأوحد، علينا أن نوحّد هدفنا وتركيزنا لتصبح غايتنا بقاء وسلامة البشرية في كل مكان.