الخطاب الوطني والقومي الشامل الذي وجهه جلالة الملك عبدالله الثاني لشعبه وأمته

الخطاب الوطني والقومي الشامل الذي وجهه جلالة الملك عبدالله الثاني لشعبه وأمته

الأردنعمان
15 آب/أغسطس 2002

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على سيدنا محمد، النبي العربي الهاشمي الأمين

أيها الأخوة المواطنون الأعزاء،،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد،،

فإنه ليسرني أن أتوجه إليكم، بتحية الاعتزاز بكم، والتقدير لعطائكم، وتفانيكم في بناء وطنكم، وحرصكم على النهوض به، ومواجهة كل التحديات والصعوبات، التي تعيق مسيرتنا الخيرة، بشجاعة وصبر وعزائم، لا يتسلل إليها الضعف ولا الإحباط.

فرغم كل الظروف الصعبة، والتحديات التي يواجهها الأردن، بإمكانياته وموارده المحدودة، فقد ظل بعزيمتكم وصبركم وانتمائكم، شامخا مرفوع الرأس، فخورا بما حقق وأنجز أبناؤه، وحريصا على الوفاء بالتزاماته، نحو أمته وأشقائه العرب، حتى لو تحمّل في سبيل ذلك ما هو فوق طاقاته وإمكانياته.

أيها الأخوة والأخوات الأعزاء،

لقد حرصت منذ أن تشرفت بحمل أمانة المسؤولية، على أن أكون قريبا منكم، وعلى الاستماع إلى صوتكم، ووضعكم بصورة ما يجري من حولنا من أحداث، وما نعمل من أجله، فنحن كلنا شركاء في تحمل المسؤولية، واعتزازي بأنني واحد منكم، لا يوازيه إلا الاعتزاز بوعيكم وصدق انتمائكم، وحرصكم على المشاركة في تحمل المسؤولية، وأداء الواجب، ووضع المصلحة الوطنية فوق كل المصالح والاعتبارات.

وأنا أعرف معنى الألم والغضب والقلق، الذي عشتم طيلة الشهور الماضية، بسبب ما يتعرض له أهلنا وأشقاؤنا الفلسطينيون، من قتل وتدمير وحصار، تحت نير الاحتلال، فأنا واحد منكم، وأشعر بكل ما تشعرون به، وما يؤلمكم يؤلمني، وما يغضبكم يغضبني.

ومنذ اليوم الأول، لبداية الهجوم الإسرائيلي على المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية، بادرت أنا وحكومتي وأنتم، بالعمل على مختلف الأصعدة، لنصرة أشقائنا الفلسطينيين ووضع حد لما يتعرضون له، من معاناة تجاوزت كل الحدود.

وقد تركزت جهودنا طيلة تلك الفترة، على الاتصال بالدول المؤثرة في هذا العالم، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وروسيا، والاتحاد الأوروبي والصين، واستخدام كل علاقاتنا معها، من أجل وقف هذا الهجوم، وحث إسرائيل على الالتزام بما اتفقت عليه مع الأشقاء الفلسطينيين، والعودة إلى المفاوضات والمسيرة السلمية، وقد أكدنا لكل هذه الدول أن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية هو السبب الرئيس للصراع في المنطقة، وأنه لا يمكن للسلام أن يتحقق إلا بعودة الأراضي العربية المحتلة إلى أصحابها على أساس قرارات الشرعية الدولية 242، 338، 1397 والمبادرة العربية وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على التراب الفلسطيني، وأنه لا بد من وضع إطار زمني محدد لقيام هذه الدولة، وأن السلطة الفلسطينية هي القيادة الشرعية الوحيدة للشعب الفلسطيني، وأن الشعب الفلسطيني هو وحده الذي يختار قيادته ويتخذ قراراته الوطنية.

كما سعينا على الصعيد العربي من أجل توفير الدعم المادي والمعنوي، للأشقاء الفلسطينيين، وكان الأردن المنفذ الوحيد الذي دخلت منه كل المساعدات والتبرعات للأراضي الفلسطينية، والتي كان الأشقاء الفلسطينيون بأمس الحاجة إليها وخاصة المواد الطبية، وما زالت مستشفياتنا الميدانية حتى اليوم تقدم خدماتها في الأراضي الفلسطينية.

وفي دوامة هذه الأحداث كانت بعض الأصوات تطالب بإلغاء معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية، أو بإغلاق السفارة وطرد السفير الإسرائيلي، وكنا نقول لأصحاب هذه الشعارات إن معاهدة السلام تشكل ضمانة حقيقية لحماية حقوقنا ومصالحنا وحدودنا، وهي بالنسبة لنا خط دفاع أمام أفكار التوسع الإسرائيلي. وقد استثمرنا هذه المعاهدة لتقديم الدعم والإسناد للأشقاء الفلسطينيين، فكانت الطائرات والشاحنات الأردنية هي الوحيدة التي وصلت إلى الأراضي الفلسطينية.

وبطبيعة الحال، وجد كثير من أصحاب الشعارات الفارغة، والأجندات الخاصة فرصة للمزايدة علينا بحجة دعم الأشقاء الفلسطينيين، وكنا نستطيع أن نبين لأصحاب هذه الشعارات من الباحثين عن الشعبية الرخيصة ما تحمّله الأردن وما زال يتحمّله في سبيل القضية الفلسطينية، لكننا لسنا ممن يزكون أنفسهم فنحن نعرف واجبنا تجاه أشقائنا، وقد وقفنا إلى جانبهم بكل إمكانياتنا منذ ثورة 1936، وحتى يومنا هذا، وخضنا معارك الأمة العربية كلها دفاعا عن الأرض الفلسطينية، مع أن بعض هذه الحروب لم نعلم بها إلا لحظة اندلاعها، وما زالت أضرحة شهداء الجيش العربي منارات في المدن والقرى الفلسطينية، وفي كل مرة خسرت فيها الأمة العربية معركتها مع إسرائيل، كان الأردن هو الذي يفتح قلبه وذراعيه للأشقاء المهجرين، ويتقاسم معهم لقمة العيش وقطرة الماء، ومصائب الحروب التي خضناها إلى جانب أشقائنا، مع أننا كنا نعرف أن العدو أقوى منا، وأن النتائج لن تكون كما نتمنى، ولكننا آثرنا التضحية وتلبية نداء أمتنا بغض النظر عن كل الحسابات والمصالح القطرية أو الشخصية.

ونحن لا نقول هذا من باب تزكية أنفسنا، أو الدفاع عن مواقفنا، ولا من باب المن على أشقائنا فهذا واجبنا، لكننا لا نقبل من أحد أن يزايد علينا، فالفلسطينيون أهلنا وأشقاؤنا وهم أدرى بمن يقف إلى جانبهم بصدق وأخوّة، ومن يزايد على صمودهم وتضحياتهم، وسنستمر في دعمهم والدفاع عن حقوقهم بكل الوسائل الممكنة وفي كل المنابر والمحافل الدولية حتى يستعيدوا أرضهم ويقيموا دولتهم المستقلة على ترابهم الوطني وعاصمتها القدس الشريف.

أمّا الحديث عن الخيار الأردني فهو حديث مرفوض جملة وتفصيلا، فالأردن لن يكون بأي حال من الأحوال بديلا عن القيادة الفلسطينية، ولن يكون الأردن طرفا في تسوية القضية الفلسطينية أو التحدث بالنيابة عن الشعب الفلسطيني.

وقد عملت طيلة السنوات الماضية، بالتعاون مع الأشقاء في المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية على تقديم كل ما نستطيع من الدعم والإسناد للأشقاء الفلسطينيين، وسنستمر في دعمهم، ولكن القرار في النهاية هو قرار القيادة الفلسطينية وهي التي تتحمل مسؤولياتها أمام شعبها والأمة العربية والعالم.

أما موقفنا من العراق الشقيق فهو واضح ومعروف، وقد كان صوت الأردن الصوت الأقوى والأكثر تأثيرا في العالم الغربي، وهو يؤكد على ضرورة وضع حد لمعاناة العراق، واحترام سيادته ووحدة أراضيه وحقه في العيش بأمن وسلام، وتسوية الموضوع العراقي من خلال الحوار مع الأمم المتحدة، بدلا من التهديد بالقوة أو استعمالها، وسنستمر في تقديم كل ما نستطيع من أجل العراق، لكن القرار في نهاية المطاف هو قرار القيادة العراقية وهي التي تتحمل مسؤولية هذا القرار أمام شعبها وأمتها والعالم.

أيها الأخوة المواطنون الأعزاء،

لقد قلت لكم منذ أن تشرفت بحمل أمانة المسؤولية، إنني نذرت نفسي لخدمتكم وتحقيق طموحاتكم النبيلة في استكمال بناء الدولة الأردنية الحديثة، التي توفر الحياة الحرة الكريمة لكل مواطن يعيش على أرضها وينتمي إليها.

وهذا الهدف لا يتحقق إلا حين يدرك كل واحد منا واجبه الوطني، وحين نعمل جميعا بروح الفريق الواحد، فنحن جميعا ننتمي إلى الأردن ونعمل من أجل بنائه ورفعته، مهما اختلفت الآراء أو تباينت المواقف، وإذا أردنا أن يظل الأردن قويا وقادرا على الوقوف في وجه كل محاولات العبث بأمنه واستقراره، فلا بد لنا من الحفاظ على وحدتنا الوطنية القائمة على وحدة الرؤية والهدف، والانتماء لهذا الوطن الذي نريده وطنا لكل الأردنيين، وطنا تسوده روح العدالة، والمساواة، وتكافؤ الفرص، واحترام حقوق الإنسان، ولا فضل لأحد فيه على الآخر، إلا بمقدار عطائه وانتمائه، وقدرته على المشاركة والإسهام في مسيرتنا الوطنية.

وقد عملت طيلة السنوات الثلاث الماضية، مع الحكومة من أجل النهوض باقتصادنا، ومعالجة المديونية، والبطالة والفقر، وجذب الاستثمارات، وإيجاد فرص عمل جديدة، وإعادة تأهيل وتدريب الإنسان الأردني، وإعادة النظر في برامجنا التعليمية والتربوية، وقد نجحنا والحمد لله في رفع معدل النمو الاقتصادي، وإيجاد العديد من المشاريع والاستثمارات، وفرص العمل لكن هذا النمو ا لاقتصادي لم ينعكس حتى الآن على مستوى معيشة المواطن بشكل ملحوظ، لكن ما تحقق من إنجاز ونجاح يؤكد لنا أننا على الطريق الصحيح ولا بد من الصبر قليلا، فالبدايات تبشّر بالخير والمستقبل واعد ومشرق بإذن الله.

ولا بد من التأكيد هنا على أن الاهتمام بالظروف التي تمر بها هذه المنطقة، يجب أن لا يكون على حساب العمل من أجل بناء الأردن وتحقيق التنمية الشاملة.

أما مسيرتنا الديمقراطية، فهي موضع اهتمامنا ورعايتنا، وحرصنا على صونها وحمايتها من كل ما يمكن أن ينحرف بها عن طريقها الصحيح، فنحن نعرف أن التنمية الشاملة، وبناء الدولة الحديثة، كل متكامل، والتنمية الاقتصادية لا بد أن ترافقها تنمية للحياة السياسية، والفكرية والثقافية، والاجتماعية، وقد وجدنا في العام الماضي أن من المناسب تأجيل الانتخابات النيابية حتى نفرغ من وضع قانون عصري لهذه الانتخابات، واتخاذ الترتيبات الضرورية لإجرائها، وحين فرغنا من ذلك، وجدنا أن الظروف الصعبة التي تمر بها منطقتنا تستدعي تأجيل إجراء هذه الانتخابات، ولو إلى حين، وقد كنا نتمنى صادقين أن تكون الظروف غير هذه الظروف، بحيث نتمكن من إجراء هذه الانتخابات في موعدها المقرر، لكن حرصنا على أن تكون هذه الانتخابات حرة ونزيهة، وغير خاضعة للمؤثرات والظروف التي تمر بها المنطقة، هو الذي دفعنا لتأجيلها، وعلى أي حال فإنني، أود أن أطمئن الجميع بأن هذه الانتخابات ستجرى بعون الله خلال فصل الربيع من العام القادم، وستكون حرة نزيهة، وتجسيدا لإرادة المواطن الأردني، الذي سيختار بكامل حريته من يمثله في مجلس النواب، وإنني على ثقة بوعي المواطن الأردني وقدرته على أن يختار من عرف بالانتماء، والكفاءة، والمعرفة، التي تؤهله لاستيعاب رؤيتنا الوطنية، والعمل من أجل تحقيق أهدافنا، وطموحاتنا الوطنية الكبيرة، في التنمية الشاملة، واستكمال بناء الدولة العصرية، دولة المؤسسات والقانون، ومجتمع العدالة والمساواة، وإن تنمية الحياة السياسية، تستدعي وجود أحزاب وطنية تستمد برامجها وأهدافها، من رؤيتها الواضحة، والتزامها بقضايا الوطن، ومصالحه العليا، حتى تكون قادرة على الإسهام في تنمية الحياة السياسية وإثرائها.

أيها الأخوة والأخوات الأعزاء،

إن التحديات التي نواجهها كبيرة والأهداف التي نسعى لتحقيقها، تحتاج إلى جهد كل واحد منا، وثمة مسؤولية خاصة على الشباب، من أبناء وبنات هذا الوطن، فهم الذين يبنون المستقبل الذي نريد، وهي مناسبة أدعوهم فيها، إلى العلم والمعرفة، ومواكبة روح العصر، واحترام قيمة العمل، وعدم الانسياق وراء الشعارات، التي ليس لها أساس على أرض الواقع، وكلي ثقة بأننا في الأردن، شبابا وكهولا وشيوخا، رجالا ونساء، نلتقي على الانتماء لهذا الوطن، ونعمل معا بغض النظر، عن الاختلاف في الرأي أو المرجعية، من أجل مستقبل أبنائنا وبناتنا، والأوطان لا تبنى بالشعارات، وإنما بالعمل المخلص الجاد.

أيها الأخوة والأخوات الأعزاء،

أحييكم مرة أخرى، في كل مواقعكم، مواقع العمل والبناء، وأعرب عن عميق اعتزازي بكم، وأسأل المولى أن يحفظكم، وأن يسدد على طريق الخير خطانا جميعا، لخدمة وطننا وأمتنا.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،