خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني في الاجتماع رفيع المستوى حول حوار الأديان في الجمعية العامة للأمم المتحدة

خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني في الاجتماع رفيع المستوى حول حوار الأديان في الجمعية العامة للأمم المتحدة

الولايات المتحدة الأميركيةنيويورك
12 تشرين الثاني/نوفمبر 2008

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على سيدنا محمد، خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه، ومن تبعه بالهدى والإحسان إلى يوم الدين.

أخي خادم الحرمين الشريفين، الملك عبدالله بن عبد العزيز،

أصحاب الجلالة والفخامة والسمو،

السادة الحضور،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد،

فإن خير ما أبدأ به كلمتي هذه هو قوله تعالى: "أدعُ إلـى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين" صدق الله العظِيم.

وبعد ... فإنني أتوجه بعميق الشكر والتقدير إلى أخي خادم الحرمين الشريفين ... ملك المملكة العربية السعودية الشقيقة، على دعوته لهذا المؤتمر الدولي الهام الذي يهدف إلى تعزيز مسيرة حوار الأديان والثقافات والحضارات، على أسس علمية بعيـدا عن التعصب والانغلاق، وبروح مـن التسامح وقبول الآخر، وتعظيم الجوامع المشتركة بين أتباع الديانات والحضارات، والاعتراف المتبادل فيما بينهم بدور كل ديانة أو ثقافة في إثراء الحضارة الإنسانية وخير البشرية عبر العصور.

وقد سبق ِلأخي خادم الحرمين الشريفين، أن بدأ مسيرته بكسر الحواجز بين أتباع الديانات بلقائه قداسة البابا، ثم دعوته ورعايته لمؤتمر مكـة المكرمة، ومؤتمر مدريد ... وها هو اليوم يدعو لهذا الاجتماع الدولي، استمراراً لمسيرته المباركة في التقريب والتفاهم والتسامح بين أتباع الديانات والحضارات المختلفة.

إن المكانة المرموقة للمملكة العربية السعودية، وما تحظى به من احترام وتقدير وبخاصة في العالم الإسلامي، تمكنها مـن قيادة هذا الحوار وتوفير أسباب النجاح له، في هذه المرحلة التي يتعرض فيها الإسلام إلى الكثير مِن الظلم والاتهامات، بسبب جهل البعض بجوهر هذا الدين الذي يدعو إلى التسامح والاعتدال والبعد عن التطرف والعنف والانغلاق.

ولما كان الكثير من الإخوة الحضور والمتابعين لهذا الاجتماع من غير الناطقين باللغة العربية، فأرجو أن تسمحوا لي بالحديث لهم باللغة الإنجليزية.

أصدقائي،

نشهد في أيامنا هذه تراجعاً في التفاهم والثقة بين الشعوب، من مختلف الأديان والثقافات. ويتجلى هذا التراجع في أوضح صوره في العلاقة بين أتباع الديانات الموحدة الثلاث - التي يشكل المؤمنون بها أكثر من نصف سكان المعمورة. فالمعلومات المضللة ومظاهر التنميط - التي تمارسها فئات قليلة - تعمل باستمرار على تشكيل مفاهيمنا عن الآخر... بحيث تخلق جواً من الخوف والشك، وحتى الكراهية.

ولكي نتمكن من التصدي لمظاهر التشكيك والخوف المتبادل، فلا بد لنا من التواصل والتعارف. ولا بد من إطلاق حوار عالمي جديد بين الشعوب من مختلف الأديان والحضارات. فمثل هذا الحوار أساسي ولا غنى عنه، للكشف عن الجوامع التي توحد الإنسانية على مبادئ التسامح واحترام الاختلاف وقبول الآخر، وكشف زيف التطرف.

ولهذا، فقد جعلنا في الأردن من الحوار بين الأديان والتفاهم بين أتباعها إحدى أولوياتنا. ورسالة عمان هي توضيح لطبيعة الإسلام الحقيقية، ودعوة إلى التعايش السلمي بين جميع بني البشر، أيد ما ورد فيها من مضامين أكثر من خمسمائة من العلماء المسلمين الثقات، يمثلون المذاهب الإسلامية الثمانية. كما صادقت عليها أيضاً منظمة المؤتمر الإسلامي، التي تمثل الدول الإسلامية في أنحاء العالم.

ويعتز الأردن بما يقوم به لاستكمال هذا الجهد، بما في ذلك دعم المبادرات العالمية الأخرى. ومن أبرز هذه المبادرات مبادرة "كلمة سواء" الموجهة من العلماء المسلمين إلى نظرائهم من العلماء المسيحيين، والتي ترتكز إلى الأرضية المشتركة التي تجمع ما بين المسيحية والإسلام.

إننا نسعى، من هذا العمل كله، إلى أن نسهم في حوار عالمي يمكن أن يساعد في تغيير مسيرة مستقبلنا باتجاه السلام، بعيداً عن مشاعر العداء. وهذه القمة تؤكد أن دعم مثل هذا الحوار غدا أولوية قصوى. وعلينا الآن، جميعا أن ندعم هذا الحوار ونمضي به إلى آفاق جديدة، لينطلق إلى خارج قاعات المؤتمرات ويصل إلى البيوت، وإلى المدارس، ويكون جزأً من حياة الناس.

أصحاب الجلالة،

أصحاب المعالي والسعادة،

من المستحيل الحديث عن الانسجام والتناغم بين الأديان، وخصوصا بين الشرق والغرب، دون التوصل إلى حل للصراع في الشرق الأوسط. فالصراع الفلسطيني الإسرائيلي هو أساس الصراع في منطقتنا... وهو صراع سياسي ... يتطلب حلاً تفاوضياً عادلاً... حلاً يحقق الحرية للفلسطينيين ويؤدي إلى قيام دولتهم المستقلة؛ ويضمن المزيد من الأمن والقبول الإقليمي لإسرائيل. ففي كل يوم يحرم فيه الفلسطينيون من العدالة، وفي كل يوم يحول فيه الاحتلال دون تحقيق مستقبل مشرق لهم، تتسع دائرة الصراع ويتفشى الكره والإحباط في المنطقة، بل وفي العالم بأسره. وفي ظل استمرار غياب العدالة، يتساءل الملايين، وخصوصا الجيل الشاب، عما إذا كان الغرب يعني ما يقوله عن المساواة والاحترام والعدالة الشاملة، بينما يزداد المتطرفون - من المسلمين والمسيحيين واليهود - قوةً في بيئة الشك والفرقة الناجمة عن ذلك.

أصدقائي،

إنهاء هذا الصراع، الذي يزرع بذور الفرقة والانقسام، من خلال إيجاد سلام مبني على قيمنا العميقة المشتركة، والتي تشمل قيم العدالة واحترام القانون الدولي وحق الشعوب في العيش بكرامة، يمثل السبيل الأفضل لتخفيف حدة التوتر بين الشرق والغرب وبين أتباع الديانات المختلفة.

ويجب أن يرافق التقدم نحو حلول ملموسة لهذا الصراع وغيره من النزاعات الإقليمية، تطوير وسائل الحوار وتعزيز التواصل بيننا. ويتطلب هذا عملاً مؤسسياً مستمراً لنشر قيم التسامح والقبول، عبر إطلاق مبادرات عالمية تحقق نتائج ملموسة في بناء التفاهم بين الشعوب والحضارات المتعددة.

ولا بد هنا من التأكيد على دور الشباب في تحقيق النجاح. وآمل أن نتمكن في هذا المؤتمر، من إطلاق مبادرات تبادل طلابية وبرامج جامعية مشتركة، تجمع بين الشباب، وتساعدهم على إدراك أن ما يجمع الإنسانية أكثر بكثير مما يفرق بيننا.

كما آمل أن نتمكن من تشجيع وسائل الإعلام على أن تسهم بشكل أكبر في نشر حقيقة أن الناس من مختلف الأديان قادرون على العيش بسلام، وأنه حين يسود العيش المشترك في أجواء من السلم والتفاهم، نكون أكثر قدرة على مواجهة التحديات، وعلى بناء المستقبل الزاهر الذي نسعى إليه جميعاً.

صاحب الجلالة الملك عبدالله،

الأصدقاء الأعزاء،

إن هذا المؤتمر، الذي يعد حدثا بارزاً في مسيرتنا، ليس نهاية الرحلة. هو بدايتها. وقد أسهمت مشاركتكم فيه في اتخاذ خطوة كبيرة إلى الأمام على طريق تحقيق السلام والقبول العالميين. والخيار لنا في أن نسلك هذا الطريق ونحقق أهدافنا. فالحوار بين الحضارات ليس ترفاً، بل ضرورة. وهو واجب علينا جميعاً القيام به، إذا ما أردنا إنهاء النزاعات التي تهدد الاستقرار العالمي.

ونشهد اليوم في كل أنحاء العالم - في الأمريكيتين وأوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا - حوارات وتواصلاً بين أتباع الديانات المختلفة. وسيظل الأردن إلى جانبكم في مسعى الخير هذا، شريكاً كاملاً في كل خطوة تقومون بها. ولنعمل معا على تشكيل مستقبل جديد، مستقبل خالٍ من الظلم، مستقبل متحررٍ من الكراهية، مستقبل لا تحكمه المفاهيم الخاطئة.

بارك الله فيكم، وفي جهودكم، والشكر لكم.