رسالة سلام وتفاهم بين الشعوب: خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني في قاعة مدينة أمستردام

رسالة سلام وتفاهم بين الشعوب: خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني في قاعة مدينة أمستردام

هولنداأمستردام
31 تشرين الأول/أكتوبر 2006
(مترجم عن الإنجليزية)

بسم الله الرحمن الرحيم

صاحبة الجلالة،
دولة السيد رئيس الوزراء،
الضيوف الأفاضل،

أشكركم على ترحيبكم الرقيق، أيها العمدة، أشعر بعميق الامتنان لك، ولجميع أهالي أمستردام، لحفاوتكم الحارّة بنا. ويسعدنا حقّاً [رانيا وأنا] أن هُيِّئَت لنا المناسبة لزيارة هذه المدينة التاريخية الديناميكية. واسمحوا لي أن أقول، إنه يشرّفني بصورة خاصة أن أكون أول رئيس دولة يُدْعى لإلقاء كلمة هنا في قاعة المدينة.

أصدقائي،

إننا نجتمع في فترة حرجة لحضارتي أوروبا والشرق الأوسط العظيمتين. ويبدو واضحاً الآن أكثر من أي وقت مضى أن مستقبلنا مشترك... وأن البلدان والمجتمعات لن تستمر وهي في عزلة... وأن الازدهار والأمن والتقدم تعتمد كلها على التعاون. ولكن في السنوات الأخيرة، ركّز قربنا الضوء على خلافاتنا أيضاً. فقد غدت الأزمات تمثل تحدّياً للعلاقة بين المسلمين وغير المسلمين هنا في أوروبا وفي أرجاء العالم. والناس يتساءلون: كيف نعيش مع بعضنا بعضاً؟ كيف نبني الثقة؟

إنَّ على القادة والمجتمعات أن يردوا. فالرد على هذه الأسئلة مهم بصورة خاصة لشبابنا. فأطفال القرن الحادي والعشرين بدأوا يشغلون مقاعد مدارسنا [وابنتي الصغرى هي الآن في الصف الأول]. وهؤلاء الأطفال وإخوانهم وأخواتهم الأكبر سنّاً يستوعبون كل رسالة تصدر عن مجتمعاتنا. إنهم أهداف لأولئك الذين يسعون إلى تجنيد جيل جديد للتطرّف والخوف والشكوك. والأمر يعود لنا لكي نرسل رسالة مختلفة، رسالة قوةٍ وثقة بقيمنا وإنسانيتنا المشتركة.

وهذا أمر هام بصورة خاصة في الحوار بين المسلمين وغير المسلمين. فتشويه الصورة - أيا كان مصدرها، ومهما كان الدافع إليها - يجب ألا يُسمح لها بأن تحجب حقيقة القيم والأهداف التي نشترك فيها. وقد تشكلت الروابط في التاريخ القديم، وهي متجذّرة في التراث التوحيدي للديانات السماوية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام. فكل واحدة من هذه الديانات تحترم مبدأ مألوفاً إلى درجة كبيرة. وفي واقع الأمر، فإن كل الموجودين هنا، مسلمين وغير مسلمين، سيتعرّفون على هذا المبدأ في حديث النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، إذ يقول: "والذي نفس محمد بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه". وهذا الحديث هو القاعدة الذهبية لمسؤوليتنا تجاه الآخرين.

والحقيقة التي لا مراء فيها هي أن الثقافات والأديان في أرجاء العالم تشترك في مُثُل التسامح والإخاء والإنسانية، والإسلام، كالمسيحية واليهودية، يثمّن حقوق الإنسان والحريّات؛ ويتطلّب احترام الأديان الأخرى والتسامح تجاهها. وهو يمقت العنف الذي لا مبرّر له، وخاصة عندما يُرتكب باسم الدين.

ومن الأهمية بمكان أيضاً أن نقرّ بالتزامنا المشترك تجاه مدننا وبلداننا. فنحن كلنا نفهم أنّه يجب عدم اقصاء أي شعب عن المساهمة في صنع الامل الذي يقدمه قرننا هذا والمشاركة فيه. والإسلام لا يطلب من المسلمين أن يعزلوا أنفسهم عن تقدّم التنمية الإنسانية. بل إن الإسلام يدعو الناس لكي يشاركوا بنشاط وفاعلية في الحياة العامة - أن يعملوا من أجل رفاه المجتمع، وأن يبذلوا جهدهم لتحقيق كل ما هو خير لا من أجلنا فحسب، بل من أجل الجميع، مسلمين وغير مسلمين على حدّ سواء. هذه هي خلاصة المواطنة الصالحة، في أي مكان في العالم. وهي بالتأكيد التجربة التي مررنا بها في الأردن، حيث عاش المسيحيون والمسلمون جنباً إلى جنب لما يزيد على 1300 عام. واليوم، يشارك الجميع في تكوين مستقبل الأردن. وهو، بمشيئة الله، مجتمع وطني يقوم على الاحترام المتبادل.

إن صورة هذا التعايش صحيحة حيثما وجد المسلمون أنفسهم في العالم. والمرء ليس بحاجة للتضحية بالهوية الإسلامية ليكون مواطناً صالحاً - أو التخلّي عن هويته كمواطن صالح ليكون مسلماً صالحاً. ووفقاً للشريعة الإسلامية، فإن المسلمين، الذين يعيشون في بلدان مثل الدول الأوروبية - حيث يتمتع المسلمون بالعدالة دون تمييز وبحريّة ممارسةِ طقوسهم الدينية، وحتى بالتعبير عن معتقداتهم في المنتديات العامة - يتوجّب عليهم التقيّد بقوانين البلدان التي يعيشون فيها، والخضوع لأحكامها. وهناك ملايين عديدة تفعل هذا، وتعيش بسلام حياة منتجة، لمصلحة المجتمع بأكمله. وهذا في حدّ ذاته تعبير عن الإيمان. والمجتمعات الإسلامية في كل مكان في العالم شركاء هامّون من أجل السلام والتقدّم.

أصدقائي،

إن نجاح المجتمعات التعددية أمر تتركّز عليه أنظار الناس في جميع أرجاء العالم. ومن الأهمية بمكان أن نُظْهر أن التحاور يمكن أن يبتعد عن الاستقطاب... وأنه يمكن التغلّب على سوء الظن وسوء الفهم - وحتى على مشاعر الظلم الحقيقية... وأن الأخوة المواطنين يمكنهم تسوية الخلافات بطريقة بنّاءة. وفي النهاية، فإن هذا هو الأساس الوحيد للسلام الدائم والتقدّم - هنا في أوروبا، أو في الشرق الأوسط، أو في أرجاء العالم. ولا يمكننا التأخير. فشبابنا يعتمدون علينا.

إن لهولندا شهرة عالمية في استشراف ما وراء الحدود القديمـة وخـلق آفاق جديـدة. فبـلدكم عمـل على تشـكيل الأرض مـن البحر... وساعد على إيجاد التجارة العالمية الحديثة ... وأعاد إحياء المُثُل العالمية للتسامح والتعاطف والرحمة. وهناك الآن تحدٍّ جديد، لجميع أبناء شعبكم. فكل مَنْ يساعد في مَنْع عوامل الفُرقة والتغلّب على بواعثها هو قائد، من مستوى الحيّ إلى مستوى البلد. والتقدّم يبدأ عندما نتكاتف معاً لجسر الانقسامات.

صاحبة الجلالة،
دولة السيد رئيس الوزراء ،

أعلم أنكما ملتزمان بقوة بالحوار بين الأديان وبالعمل في هذا المجال.

حضرة العمدة،

أنا معجب بصورة خاصة بشعارك: "استَمِع لجميع الأطراف". والشكر لك لإتاحة الفرصة لي للدخول في ذلك الحوار اليوم.

وأنا أؤمن أننا من خلال الشراكة سنتمكن من إيجاد مستقبل يثريه الاحترام لثقافاتنا الفريدة، وتعزّزه إنسانيتنا المشتركة... مستقبلٍ يحمل أملاً جديداً بتوفير الفرص والسلام للجميع.

شكراً جزيلاً لكم.